كاميران حوج

book cover

جهات الغرب

May 21, 2022

سيرة القرن العشرين في الإبداع الروائي

د. فيصل درّاج

هذه رواية عن وجوه الحياة وسطوة الزمن وقوة الحكايات، تتأمل ما يأتي ويسقط في الأفول، وتكتب عن عنف التاريخ وخفته الذي يبدو جليلاً وينتهي قصصاً مبتورة تحاور تعددية الوجع الإنساني. وهي في مواضيعها المتداخلة المتقاربة المتباعدة سرد لمتاهة القرن العشرين، الذي صنعه "الغرب" وجر الآخرين إليه، مبرهناً أن التاريخ ظل الجغرافيا، وأن "مدن التاريخ" تتمثل في برلين وموسكو ونيويورك وما يشبهها، وأن ما تبقى أكواخ تلتهما نيران الأقوياء. غير أن القوة لا تصاهر، لزوماً، الحكمة، ذلك أن ألمانيا المتغطرسة تلتهم ذاتها، بعد أن "التهمت أفريقيا"، ذات مرة، كما تقول الرواية. لا يتبقى في النهاية إلاّ رماد الحماقة الإنسانية وحزمة من الذكريات، تعالجهما حكايات مكتوبة، تخفف الآلام وثقل الزمن، لأن في الحكايات ما يجعل الخسارة أقل وطأة. يترسّب التاريخ، شفافاً بدا أو دخاناً يتلوه دخان، في فضاء ذاكرة حكايات متشجّرة، قوامها بشر خادعهم التاريخ وتركهم مع ذاكرة جريحة.

أنجز النمساوي ميشائيل كولماير ملحمة مدهشة تتداخل فيها خلجات القلب الإنسان، إذ لا تاريخ بلا وجوه تلهث وراءه، وهول القنبلة الذرية التي قضت، في لحظات انفجارها الأولى، على حياة ثمانين ألف ياباني، في نهاية الحرب العالمية الثانية، امتثالاً لقانون قديم: الرحمة لا تجوز على الخاسرين. جمع الروائي بين عذاب طفل أفريقي في بقعة "متخلّفة" ورعب ملايين "متحضرة"، تنصت إلى الموسيقا في برلين وفيينا، متأملاً "الظاهرة الإنسانية" وسائراً، بلا اطمئنان، من البسيط إلى المعقد ومن اليد المقطوعة إلى رماد المدن الواسعة. وما الظاهرة - اللغز إلا اللقاء المعتم بين عبقرية إنسانية حديثة، تريد ترويض كون لا يروض، وعدوانية عمياء تعبث بأبسط المبادئ الإنسانية وأكثرها وضوحاً. رصد الروائي، مستعيناً بمعارف كثيرة، محدودية الوجود الإنساني ولا محدودية الشر الصادر عنه، مواجهاً العتمة المنتشرة بالموسيقا والمحبة وفتنة الحكايات، وبكلام متدفق يمليه كبت متجدد ويظل كلاماً مكبوتاً انتهى وهو يروّض، حكائياً، تعددية زمنية ومكانية، إلى سيرة القرن العشرين، التي جمعت بين أينشتاين وكاندينسكي وثورة أكتوبر وشر إنساني ولود، يسهو قليلاً ويستيقظ أكثر قوة.


وصف


From Books

اليوم يمر عام على ذكرى وفاة كارل ياكوب كاندوريس في 18 نيسان / أبريل 2001. خمسة وتسعين عاما. كان حتى خروجه إلى التقاعد أستاذا للرياضيات في جامعة ليوبولد فرانتس في اينسبروك. قضى السنين الأخيرة من حياته في قرية تطل على المدينة، في فيللا على سفح هضبة صخرية. كان يفضل الجلوس في كرسي حالت ألوانه بمضي السنين في الحديقة، ، مستمتعا بإطلالة على بحيرة وجبل، والغابة وراءه.

اتصل بي قبل وفاته بأسابيع قليلة على المحمول وقال: "سيباستيان! هذا أنت"

قلت: "نعم، هذا أنا"

قال: "لكن صوتك ضعيف"

كان لصوته ذلك الرنين الفريد، الممتط، الذي تذكرته جيدا ممزوجا بالسخرية كما هو طبعه. صوت لا يتوقع أحد أنه صوت رجل في سنه. لم ألتق به منذ سنتين ولم نتصل هاتفيا. والانقطاع لمدة سنتين غير عادي في تاريخنا.

قال: "قبل قليل قمت بعملية جرد، ومن بين كل الذين أحببتهم، أنت الإنسان الوحيد، الذي مازال حيا".

ضحكت وقلت لنفسي: بهذا يريد العجوز أن يعلن لي قرب وفاته. عندما أطبقت المحمول توترت أعصابي كثيرا وقرعت جرس الإنذار وطلبت من الممرضة أن تعطيني مهدئا. ولم أعترف بقلقي إلا في الليل المتأخر عندما خف مفعول المهدئ وكنت أبحلق في الضوء الخافت القادم من النافذة التي أسدلت عليها الستارة. ما أثارني لم يكن أن صديقي يرى اقتراب موته، إنما أن يموت أصلا على غرار كل البشر).

كنت مستلقيا على سريري في مستشفى اينسبروك بعد عملية استئصال البروستات وصوتي صدئ قليلا تحت تأثير المخدر. كان الكمبيوتر قد رسم نجمة أمام عدد الانزيمات إثر فحص دم روتيني في كانون الثاني / نوفمبر الماضي، في إشارة واضحة إلى ارتفاع مستواها. أخذت خزعة وكانت النتيجة ايجابية: سرطان في مرحلة مبكرة. بهذا كان علي أن أنظر في عين الموت مرة أخرى بعد حادث السيارة الذي جرى لي قبل عشرين عاما. نصحني الطبيب بإجراء العملية في اينسبروك مدعيا أن فيها أحسن الحرفيين.


شارك


Kameran Hudsch

Copyright 2022 © DevCloud