كاميران حوج

book cover

بلاغة النور (وآخرين)

May 21, 2022


إنّ الكتاب تتبّع كيفيّة تلقّي العرب ومن ثمّ المسلمين على مرّ العصور القرآنَ الكريم بوصفه (خطابًا بليغًا موقّعًا): فهو خطابٌ؛ تنزّل منجّمًا ومرتّلًا ليحاور الواقع، وما زال كلّ مسلم يتحرّى تلقّيه كأنّما عليه أنزل، فلا عبادة إلّا بتلاوته. وهو بليغٌ موقّعٌ؛ قرآن عربي نزل بلسان مبين، وكتاب معجز باعتقاد المتلقّين من المؤمنين به، من جهة معنى الوحي والتشريع، ومن جهة مبناه الذي أحلّه في ذروة اللسان العربي الذي به نزل، وقد هيمن على كلّ كلام فنّي لدى من أنزل عليهم، وما زال النموذج الأبلغ والأنقى والأعلى في الأداء اللغوي، حتّى قال كثيرون في العربيّة: شعرٌ ونثرٌ وقرآن. وعدّوا القرآن أرفع الثلاثة في بلاغة توقيعه، وهذا هو ما رصده "كرماني"، وكان حقّ ترجمة العنوان الفرعي أن تكون جماليّات الخطاب القرآني، لأنّ تتبّع كيفيات تلقّي المسلمين بأحوالها المتعدّدة كانت تعاين الخطاب القرآني في تلاوته وترتيله وتجويده وتوقيعه ومقدار التفاعل معه خطابًا مقروءًا أكثر منه نصًّا مكتوبًا، وإن كانت بلاغة إعجازه تحقّقت ــ بنظر الأتباع ــ في الخطاب القرآني وفي النصّ الكتابي على السواء.

ترجم هذا الكتاب مجموعة من المترجمين

 

 


وصف


From Books

سيان إن كان المخاطِب على حق في وصف خطابه بـ"أحسن" أم لا، إلا أن مثل هذا الادعاء في كتاب منزل كفيل وحده بإثارة الدهشة ويشترط مسبقا قبولا معينا لدى السامع من الناحية الجمالية. لن يزعم مرسِل أنه "يروي أحسن القصص" دون مزيد من الشرح، إذا كان يحسب أن زعمه لن يجد لدى الجميع إلا الاستغراب والإبهام ولن يصطدم إلا بالرفض الكلي من قبل المتلقي. من السهولة بمكان البرهان على أن معرفة الحقيقة الغيبية في القرآن معرفة حسية من خلال سورة الزمر الآية ٢٣أعلاه، التي تشير إلى الروع الذي يستولي على سامعي القرآن أو من خلال سورة المائدة الآية ٨٣: "وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ".

ربما اعترض على مقولة حدوث شيئ ما مع السامعين لدى تلاوة القرآن و قيل ليس من الضرورة أن يتوافق ادعاء رد فعل على هذا الغرار مع الواقع آنذاك، لكن ذاتيا، ومن وجهة نظر المخاطِب، لا بد أن رد الفعل هذا قد حدث فعلا، حتى يكون بوسعه الإشارة إليه. وحتى لو كان المرء لا يتفق مع الفهم الإسلامي لهذه الأحداث بأن المتكلم هو الله وهو بالتالي العليم، علينا أن نستنتج من الإخبار عن الأثر الجمالي للتلاوة أن هذا الأثر وجد فعلا، ولو أنه لم يكن كليا وغالبا كما يزعم المتكلم. "نتفهم شدة الأثر الذي عاناه المؤمن أثناء التبشير، لأن النبي ذاته يصفها لنا"، يقول غوستاف ريشتر، أحد قلائل باحثي القرآن الغربيين.

بالنتيجة فكلمة مثل "حسن" ليست أكثر من قشور لا تفصح بأكثر من أن شيئا ما يتمتع بجاذبية شكلية أو حسية، يعجبنا، نشعر به حلوا ونقدره تقديرا إيجابيا. يجد الجميع القرآن "جميلا"، لكن الجميع يصمتون على ما يعتبره المتكلم في القرآن نوعية خاصة للقرآن أو أين يتصور ذوو الحق في السيرة النبوية ـ ولنقل كاتب مثل ابن اسحق (767) ومحقق مثل ابن هشام ـ سحر القرآن. لا يتضح لنا من هذه المرويات ما معنى الجمال، ما هي سمات مفهوم "حسن" لدى العرب في القرن السابع أو الثامن وما هي مواصفات النص الجميل بعرف الصحابة، كما لا يمكن تفسيرها حق التفسير، إنها دون أدنى شك علامات تختلف كليا عما يتخيله ابن القرن العشرين والحادي والعشرين.  لكن يبقى الجدير بالملاحظة أن المتكلم في القرآن يعين الجمال، كما يظهر من كلمات "متشابه" في الزمر ٢٣ المذكورة أعلاه و"أحسن تقويم" في التين ٤، كأنه نوع من أنواع التناسق الشكلي أو حسن القوام، الأمر الذي يذكرنا بتعريف مفهوم الجمال لدى الفن الكلاسيكي في اوروبا باعتباره تناسق أجزاء الواحد. ربما كانت ناحية كونية، وعلى كل حال ناحية نجدها في العصور القديمة، للتجربة الجمالية، أن يكون الشكل القويم للموضوع الجمالي، تناسق الأبعاد، التناسب هو ما يميز هذه التجربة الجمالية عن القبيح، اللامتناسق، الفوضوي ويظهرها للمتلقي حلوة، خيرة، أو عموما "مؤثرة" وبالنتيجة ليس حاسما أن يسمي المرء هذا جميلا أم لا: "كيف انجز هذا، كيف انقلب، كيف وضع! كيف يلج موضوعا ويهجر موضوعا، كيف ينحل، وفي الانحلال يتجدد شيئ آخر، يصبح الثانوي خصبا، كيف تتحول النغمة بنعومة، تتصعد برفق، تنصبّ فيها روافد عدة أوتار، تتضخم جارفة، وتتفجر بالنصر، النصر بحد ذاته ـ لن أسميه جميلا، كلمة الجمال كانت تقرفني دائما، لها وجه قبيح وتلوح على الناس الشهوانية والكسل إذ يذكرونها. إلا أنه حسن، حسن لأقصى الحدود، لن يصير أفضل، وربما ينبغي ألا يصير ـ"

لا، هذه ليست شهادة في القرآن، مع أننا سنصدف في مجرى هذا الكتاب عدة اقتباسات تتضمن مايشبهها وتحلق على نفس المنوال، هذا اقتباس عن الدكتور فاوستوس لتوماس مان وموضوعها قطعة موسيقية.

نستنتج من القرآن أن الرسول كان يتردد في السنوات الأولى لرسالته على الكعبة كي يتلو الآيات المنزلة. بدءا كان يلتم حوله رهط المؤمنين القليل، الذي كان يسجد أثناء التلاوة ويبكي، كما كان يتجمع حوله المزيد والمزيد من الفضوليين. وعلى الأطراف كان أعداء محمد حاضرين غالبا. وإن كان هؤلاء يسخرون بالمبشر الجديد بالخلاص ويحتقرونه بداية على مرآى ومسمع الجميع، فإن سلوكهم اصطبغ مع تزايد عدد المستمعين إلى محمد بمرور الزمن بالمزيد من القلق والبغضاء. لم يتمكنوا من الموافقة على طلبه الاعتراف بأن الله ينصره، وعوضا عن هذا حاولوا التقليل من قدره باعتباره شاعرا عاديا، كاهنا، ساحرا ومجنونا. حتى الآن تتفق التصويرات التي تعطيها السير المتأخرة عن رسالة محمد مع سيناريو التلاوة الذي يستخلص من القرآن ذاته ولها بعض القيمة التاريخية أيضا.

لكن ما له دلالة كبيرة وما هو أكثر تشويقا أو على الأقل أكثر تلونا، من وجهة نظر معينة، هو الكيفية التي ترسم بها الذاكرة الجمعية السيناريو القرآني والكيفية التي تُظهِر بها تاريخ قبول القرآن، التي يشير إليها النص إشارة فقط، كتاريخ لأثر سحري جمالي. إن الجاذبية التي يشعها القرآن والتي يشهد عليها هو ذاته في بعض الآيات، تفسر في ا لتاريخ الحضاري شعريا وتوصف بكل دقائقها وتفاصيلها. بشكل أقوى من النص ذاته تشهد الوثائق غير القرآنية، أن الوحي لم يقنع الناس من خلال مضمونه فقط، بل أقنعهم بالدرجة الأولى من خلال التجربة الجمالية. وهكذا بدا بينا جدا للمفسرين الملسمين أن كلمتي "حسن" أو "أحسن" في المواضع التي تنتج ذاتها بذاتها تصف الصيغة اللغوية للقرآن ولا تنسحب بالدرجة الأولى على بشرى الخلاص. فالآية المذكورة توا "نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن" مثلا، فهمها المفسرون المسلمون على أن، كما لدى الزمخشري ( ت. 1144)، الله " اقتص على أبدع طريقة وأعجب أسلوب". كما أنهم جعلوا من "متشابها" في تفسير الآية " اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا" صفة لأسلوب أو لنظم القرآن وبهذا وجدوا في "أحسن الحديث" تمجيدا للسبك اللغوي.  هذا مما لا يدانيه الشك في التفسير، الذي لا يصح على النص مباشرة بل يتعامل مع النص من خلال أفق طبعته الذاكرة الجمعية بطابعها، لأن المفسرين قانعون تماما أن الأثر الجميل، المشار إليه في القرآن إشارة، للتلاوة على معاصري محمد حقيقة تاريخية، توثقها آلاف الروايات. يرتكز تاريخ قبول القرآن المبكر، كما تخفظه الذاكرة التاريخية للأمة الإسلامية، أساسا على مقدمتين قياسيتين، الأولى هي تصور أن عرب قبل الإسلام (الجاهلية) كانوا جماعة ثقافية امتازت واشتركت بلغتها وشعرها، والثانية هي السحر البالغ الذي كان يشع من تلاوة القرآن ويأسر المستمعين. هاتان المقدمتان هما أساس كل الروايات عن مواقف قبول القرآن، لنا أن نتعرف منها بدورها نماذج أو شخصيات معينة. علاوة على الذين أسلموا تلقائيا نجد الأعداء الذين هبوا في وجه الرسول، لكنهم كانوا خفية يتحرقون شوقا لسماع القرآن. نجد الماكرين الذين لا يرون من وسيلة يعارضون بها قوة القرآن إلا الاعتداء على كل من يتلوه، كما نجد الشعراء الذين ليس بوسعهم أن يعارضوا القرآن بشعر على نفس الكمال، نجد الصحابة الذين يتبارون في     عشقهم لتلاوة القرآن


شارك


Kameran Hudsch

Copyright 2022 © DevCloud