كاميران حوج

book cover

ميرنامه الشاعر والأمير

May 21, 2022

لا يتدخل الراوي في السرد، بل يدع هذه المهمة لشخصيات روايته، فتحكي كل منها ذكرياتها الذاتية عن الشاعر وتربطها بالأحداث الكبرى أو شؤون الحياة اليومية. ولهذا تأتي الرواية بأطروحات عديدة على لسان المغني وطالب العلم، على لسان صانع الحدوات وتاجر الجلود، العاشقة المحرومة وأبيها الجشع، المجرم والسكير، الوصولي والانتهازي وكذلك رجل الدين المتنور والشيخ القاتم، الذي يدعو الشعب إلى الجهاد في سبيل الإمبراطورية الغاشمة ويرسل الفقراء إلى الحروب والتقتيل، بينما يستمتع هو بمتع الحياة الدنيا. بهذا نجد العديد من الآراء والتحليلات عن الزمن الذي يعيش فيه الشاعر، حيث لكل شخصية رؤيتها الخاصة للحياة، للجمال، للحب، للسلطة وللمال. تمتد الرواية على مدى زمني طويل وتتطرق بذلك إلى الكثير من الثيمات التي كانت تشغل العالم آنذاك ومازال بعضها يجد صداه حتى يومنا الراهن.

بهذا يستمتع القارئ بنسيج مزركش عن ذلك الزمن الصعب والجميل، كما يتألم لمعاناة شاعر أراد أن ينثر العلم بين أبناء جلدته، فاصطدم بسلطة لا تعي من الحياة شيئا سوى الأنانية والسطوة ورجال دين لا هم لهم سوى استغلال الجمهور بالخرافات وتقويل العالِم ما لم يقله. الرواية مكتوبة بأسلوب شيق، مبني على التاريخ، دون أن تدخلنا في متاهة الوثائق، وتعطي صورة جميلة ورقيقة عن دور الأدب والعلم حيث يصطدم الجهل بالظلام، العنف بالرقة، الجمال بالقبح والتسامح بالقتل.

 


وصف

علة خفة الجثمان أنها لشيخ نوراني. للجثامين الثقيلة علاقة بقذارة روح المرء، أما هذا الشيخ فقد كان ذاتا طاهرة، وخفة جثمانه تعود إلى روحه النقية يا ملا. إنه نور محض. أللنور ثقل يا ملا إسماعيل؟


From Books

حينما صرخت وقلت: ″حبر يهطل من السماء!″ لم أكن ثملاً. كنت ممسكاً بلجام خيالي وأميز رائحة الحبر أكثر من رائحة العرق في إبط عشيقتي الأرمنية.

جميع من في الحشد الذي كان متحلقاً حول قبر الخاني ويستمع لقراءة تلقين الشيخ سيف الدين صاحب الجبة الزرقاء والقلب الأسود، نظروا إليَّ ثم أطلقوا غربان نظراتهم إلى الأعالي وهم يفتحون أكفهم كحمامات لتلقي قطرات المطر التي كانت في لون دموع  ممزوجة بكحل عيون نسوة في مجلس عزاء.

كان المطر قد بدأ يهطل على مهل وبأناة. برقة كان المطر يهطل، لكأن السماء تقرأ الفاتحة على روح الشيخ. كان المطر يتساقط حزيناً وهادئاً.

لم يكن السُّكْر قد خطف اللجام من يدي بعد، حين رأيت أن المطر أصبح بلون الحبر، الحبر الذي كنت أبصره في قارورة لدى الخاني يلمع في كثير من الليالي في ضوء السراج.

كان الشيخ يحب الحبر كثيراً. وما أكثر المرات التي كان يدني فيها قارورة الحبر من أنفي ويقول: ″ بالله عليك! أليست رائحة هذا الحبر بأزكى من رائحة الخمر التي تشربها؟"

أحياناً، وعندما كنت أذهب لأسامره، كنت أراه يضع القلم في الدواة، وبكل القوة التي في رئتيه يشم الحبر ويقول: ″ هذا ليس حبراً يا تيمور. إنه عبرات قلب تائه محترق".

في إحدى ليالي مرضه المجهول، دخلت حجرته. كنت قادماً لتوي من الدير الواقع شمال بايزيد وكان السكر قد بلغ بي حداً أشعر فيه أن رأسي ثقيلة كأنني أحمل جبل قاف. وكانت شمعة بيضاء ثخينة تضيء جنبات الحجرة والخاني منكب على أوراقه البيضاء يسطرها بحبر يلمع في ضوء الشمعة. حينما أبصرني، ارتسمت البهجة في محياه، وضع قلمه القصبَ ذا الرأس الأسود بحنان إلى جانبه وقال: ″أهلاً بك يا تيمور. تفضل اجلس″. جلست بجانبه وسكبت خمرة نظراتي على ورقاته ناصعة البياض كروحه. كان جلياً أنه يكتب شيئاً هاماً لكنني لم أعرف كنهه، فسألت: ″أتكتب غزلية جديدة يا مولاي؟″ زفر زفرة عميقة جعلت لهب الشمعة المشتعلة يتراقص دون أن تنطفئ. اهتز ظله المرسوم على الجدار قليلاً وقال بأسى: ″أنا أكتب رسالة للأمير يا تيمور″. لم أره حزيناً هكذا من قبل.

صحيح أن بهجة ارتسمت على وجهه أول ما دخلت، بهجة ظننت أنها بسبب الشمعة التي لم أر مثلها تضيء في حجرتها قبلاً، إذ كان يكتب دائماً على ضوء السراج ويقول: ″الشموع للأمراء والبكلرية″، لكن سرعان ما غزت موجات الحزن وجهه المصفر حتى رأيت على ضوء تلك الشمعة الجديدة عينيه المبللتين أيضاً.

طوى ورقته التي كان قد سطرها حتى منتصفها، ثم توجه إلي وقال:″ما الموت في قاموسكم أنتم معشر عاقري الخمر يا تيمور؟″ سؤاله هذا، الشبيه بماء الثلج، أطلق عنان خيالي فقلت بداهة: ″الموت هو اليقظة الكبرى″. فسأل: ″والحياة؟″ أجبته: ″سَكْرَةٌ طويلة″. عادت البهجة قليلاً إلى وجهه وقال: ″إذن أنا على أعتاب اليقظة″. لم أفهم ما يقصده، أمسكت برأسي الثقيلة وفركت صدغيَّ. قال بحزن: ″هناك من يشم رائحة الموت، وهناك من يشعر بطعمه. وهناك من يرى الموت، بينما يسمع آخرون وقع خطواته. وهناك من يتلمس بيديه خشونة أو نعومة موته. أما أنا.....″ وبمقدار البرهة التي تمتلئ فيها الكأس خمراً، بقي الشيخ صامتاً ثم فتح الورقة التي كان قد طواها قبل قليل وعقب: ″أما أنا، فإنني أكتب موتي".


شارك


Kameran Hudsch

Copyright 2022 © DevCloud