ما الذي يفعله العمر بالإنسان؟ في شبابهما كان أحدهما يدس رأسه المليئة بالأفكار في أوراقه ليجد صياغة جديدة للعالم بالعثور على حلول لمسائله المجهولة بوسائل الرياضيات والفلك ناسيا ما حوله، بينما يغادر الآخر وطنه الأم ليقوم بالبحث عن الحقائق ذاتها في جنوب غابات جنوب أمريكا وجبالها وكهوفها ويراقب ما حوله.

كارل فريدريش غاوس (1777 – 1866) يولد في عائلة فقيرة ينال في المدرسة صفعات المدرس حتى يكتشف هذا يوما ما أنه عبقري قي الرياضيات فيؤمن له منحة دراسية. لكن غاوس يجد الدراسة مملة، بل يجد العالم كله مملا، يفكر منذ الطفولة في الموت وفناء العالم ويسخط على البشرية لأنها "غبية". يدهش من بطء تفكير الناس في محيطه ويتساءل لماذا لا يستطيعون الرد على أسئلته بالسرعة المرجوة، لماذا يحتاجون إلى فترة زمنية، إلى "استراحة تفكير" كي يجدوا جوابا على سؤال. ويظل هذا الشعور يرافقه طوال عمره، فيشتم ابنه على غبائه، يشتم طلابه لأنهم لا يفهمون أفكاره. أملا في العثور على إنسان واحد يستطيع فهم آرائه يتجه إلى كانط، فيجد هذا في حالة مزرية، عجوزا "يسيل لعابه"، فيفقد الأمل كليا ويتساءل عن الداعي إلى الحياة ويقرر الانتحار، ولا يمنعه عنه إلا موافقة فتاة يحبها على الزواج منه.  وبعد وفاتها تستحيل حياته جحيما أكبر لأنه يتزوج من صديقتها الغبية وينجب أطفالا لا يجدون سبيلا إلى قلبه. لكنه يكون قد تعلم "الحياة" مع الناس، بل ويكتشف أن تفكيره هو أيضا قد بدأ يتباطأ،مع العمر فيزداد نقمة على نقمة.

الرحالة الكسندر فون هومبولدت (1769 – 1859) ينشأ في بيت نبلاء، يدرسه أحسن الأساتذة في طفولته، حيث يكون خاملا وكسولا، ثم لا يلبث أن يقرر بعد حادثة تجري معه أن يستكشف العالم الجديد كما لم يستكشفه أحد قبله ويصير "راهبا" للعلم، لا يشارك في حفل زواج أخيه، ينتظر وفاة أمه ليبدأ الحياة التي يرغب فيها، حياة العالِم. يتجول في أنحاء القارة الجديدة ويدرك أسرارها: القضاء على السكان الأصليين أو تغيير حضارتهم، بناء المستعمرات الأوروبية، تقسيم القارة إلى دويلات متصارعة، نشوء الدولة العظمة الولايات المتحدة الأمريكية وأهدافها الاستعمارية. وبخلاف غاوس فإنه موثق دقيق، يرسل تقاريره إلى الوطن وينشرها في الجرائد، هادفا إلى الشهرة والحظوة.