كاميران حوج

book cover

العطر

May 21, 2022

يكتشف زوسكند عالما خاصا بهن لم يسبقه إليه في الكتابة أحد، وربما لن يجاوره أحد أيضا. عالم تتعدد طبقاته وتأويلاته حسب القراءة

 


وصف


From Books

في عصر لا يفتقر إلى النوابغ والسفلة، عاش في فرنسا القرن الثامن عشر رجل من أكثر الكائنات نبوغا وسفالة، رجل ستسرد حكايته هنا. كان اسمه جان بابتيست غرينوي. وإن كان اسمه قد صار، خلافا لأسماء النوابغ السافلة الأخرى على غرار دي ساد، سانت جوست، فوشيه، نابليون وغيرهم، نسيا منسيا، فلا لأنه كان دونهم عنجهية، احتقارا للإنسانية، لاأخلاقية، وباختصار، كفرا، بل لأن نبوغه وولعه حشرا في حقل لا يترك في التاريخ إلا النزر اليسير من الأثر، ألا وهو حقل الروائح الطيار.

في ذلك العهد، سادت المدن نتانة لا نستطيع، نحن المعاصرون، تخيلها إلا بشق الأنفس. كانت الشوارع تنتن بالروث، الأفنية الخلفية تنتن بالبول، سلالم البيوت تنتن بالخشب المتعفن وفضلات الجرذان والمطابخ تنتن باللفت الفاسد وشحم الحملان. من الردهات، التي لا تهوّى، كانت تنبعث رائحة الغبار المتعطن، من المخادع رائحة الشراشف المدهنة، رائحة الأسرة النابضية الرطبة ورائحة المباول الحادة اللذيذة. كانت المداخن تنشر رائحة الكبريت، المدابغ رائحة القلويات النفاذة، المسالخ رائحة الدم المتخثر. كان الناس ضوار، ينتنون بالعرق والثياب القذرة، من أفواههم تنبعث رائحة الأسنان النخرة، من معداتهم تنبعث رائحة عصارة البصل ومن أجسادهم، إن لم يعودوا في ذروة الشباب، رائحة الجبن العتيق والحليب الحازر ورائحة الأورام السرطانية. كانت الأنهار تنتن، كانت الساحات تنتن، كانت الكنائس تنتن، وكانت الأكواخ تنتن والقصور تنتن. كان للفلاح ذفر القسيس وللصانع ذفر زوجة المعلم. كان النبلاء ينتنون، بل وحتى الملك كان نتينا، كانت له ريح حيوان كاسر، والملكة، كان لها رائحة عنزة جرباء، صيفا وشتاء. إذ لم يكن قد وضعت بعد في القرن الثامن عشر حدود لنشاطات البكتريا المحللة، وهكذا فلم يكن هناك من فعل إنساني، سواء بناءا أم مدمرا، لم يكن هناك مظهر من مظاهر الحياة، سواء نامية أم زائلة، إلا ورافقها النتن.

وطبعا كان النتن في باريس على أشده، فقد كانت أكبر مدن فرنسا. وفي باريس تلك، كان هناك مكان تسوده رائحة جهنمية لا تطاق بين شارعي (اوفيرس) و(دو لا فيرونري) أي (سيميتيه ديزينوسانس). فقد جيء إليه بجثث الموتى في مستشفى (نزل الرب) والرعيات المجاورة ثمانمائة عام، فقد نقلت إليه الجيف بالعشرات يوما بعد يوم وألقيت في خنادق طويلة ثمانمائة عام وأطبقت العُظَيمات في المدافن وقصور العظام طباقا طباقا ثمانمائة عام. ولاحقا، عشية الثورة الفرنسية، بعد أن تصدعت حفر الجثث تصدعا خطيرا ولم يدفع النتن المنبعث من المقبرة الفائضة على مجرد الاحتجاج، بل وعلى تظاهرات حقيقية، أغلقت المقبرة أخيرا وفتحت القبور، وجرفت ملايين العظام والجماجم إلى سراديب مونمارتر وافتتح في مكانها سوق للبقالين.

وهنا في أنتن مكان في المملكة ولد جان بابتيست غرينوي في 17 تموز 1738، يوم من أشد أيام السنة حرارة. كان القيظ كلحاف من الرصاص فوق المقبرة ويهصر سديم التعفن، الذي يصدر ريحا هي مزيج من البطيخ الفاسد والقرن المحروق، ليندلق في الأزقة المجاورة. كانت أم غرينوي، إذ أتاها الطلق، واقفة في دكان السمك في شارع (اوفيرس) وتقشر السمك الأبيض، الذي نظفته من قبل، وكان السمك، الذي أقسمت الأيمان على أنه اصطيد صباحا من نهر السين، نتنا لدرجة أن رائحته غطت على ريح الجثث. إلا أن أم غرينوي لم تشعر لا برائحة السمك ولا بريح الجثث، فقد كان أنفها محصنا تحصينا منيعا ضد الروائح وعلاوة عليه كان تعاني في بطنها ألما، قتل فيها كل إحساس بالإنطباعات التي يتركها العالم الخارجي في الحواس. كان أقصى ما تريده، هو أن يزول الوجع، أن تنتهي الولادة المقززة بأقصى سرعة، كما انتهت الولادات قبلها، فهذه كانت ولادتها الخامسة. ونجحت في أداء السابقات في دكان السمك، وكانت مواليدها ميتة أو نصف ميتة، فاللحم الدامي، الذي خرج منها، لم يتميز كثيرا عن أحشاء السمك المرمي هناك، كما أنه لم يعش أطول منها، وجرفت الخلائط كلها مساء لتلقى إما في المقبرة أو في النهر. وكان المفترض أن تأخذ الأمور المجرى ذاته اليوم، وأم غرينوي، التي مازالت شابة بلغت للتو أواسط العشرين، لازالت حسناء تحتفظ تقريبا بكل الأسنان في فمها، وعلى رأسها لم يزل بعض الشعر وبصرف النظر عن التهاب المفاصل، الزهري وسل خفيف، لم تكن تعاني من أمراض جدية ومازالت تأمل أن تحيا أعواما مديدة، ربما خمسة، بل وربما عشرة أعوام، بل قد يكون لها بصيص أمل في الزواج وإنجاب أطفال حقيقيين كزوجة حقيقية لحرفي أرمل، وما إلى هنالك من الأطماع في الحياة .. على كل حال، كانت أم غرينوي تهفو لأن ينتهي الأمر سراعا وعندما حمي الطلق تكورت تحت الطاولة وولدت هناك، كما فعلت أربع مرات من قبل، وقطعت حبل السرة بسكين تنظيف السمك. لكن لسوء الحظ، وبسبب اللظى والنتن، الذي لم تشعر به نتنا، بل شيئا لا يطاق، شيئا مخدرا، مثل سهب من الزنبق أو غرفة مليئة بالنرجس، أغمي عليها، ترنحت وخارت أمام الطاولة وسط الشارع وظلت هناك بيدها السكين.


شارك


Kameran Hudsch

Copyright 2022 © DevCloud